د. زيد حمزة
من الواضح ان ثمة توتراً يكتنف العلاقة بين رئيس الولايات المتحدة الجديد دونالد ترمب وبين الاعلام في بلده وهو توتر لم يألفه العالم من قبل وقد بدأه ترمب نفسه اثناء حملته الانتخابية في هجومه على الصحف تارة وعلى محطات التلفزيون تارة أخرى، ولعل اي متابع يستطيع ان يلاحظ الفرق في الولاءات السياسية والانتماءات الفكرية بين قناة واخرى أو صحيفة معينة وغيرها من كبريات الصحف، فلا يستغرب مثلا موقف محطة فوكس نيوز اليميني المنحاز للرئيس ترمب مقابل الضيق والتململ في برامج ال CNN حد السخرية منه احيانا، اما التصنيف الشائع للنيويورك تايمز بأنها يسارية وان الواشنطن بوست يمينية فذلك تبسيط مضلل إذ ان طيفاً واسعاً من الالوان السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتراوح بداخله معظم الصحف الاميركية ومن بينها هاتان الصحيفتان، ليس فقط حسب اهواء أو آراء مالكيها وارتباطاتهم بالليبراليين الجدد وحلفائهم بل كذلك حسب السياسة العامة للدولة الاميركية العميقة التي تمليها بطرقها الخاصة عند الضرورة بحجة الامن القومي أو المصلحة الوطنية العليا وهي نفس الحجة المستخدمة في الدول الشمولية والسلطوية حيث تعزف جميع اجهزة الاعلام لحنا واحداً كأنما يقودها مايسترو واحد، وهنا اجازف بالقول إن في صفوفها من تخرج احياناً عن هذه الاوركسترا كتلك الصحف الاستقصائية التي عارضت في ستينات القرن الماضي الحرب على فيتنام، او كمحطة (D N Democracy Now ) التي تعارض منذ سنوات سياسة الادارات الاميركية المعادية للاقليات والسكان الاصليين والمهمشين.
في الجو المشحون بين الاعلام الاميركي والرئيس ترمب والذي لا أظنه مفتعلاً كما يعتقد البعض، التقطتُ الشهر الماضي ما نشرته نيويورك تايمز في معرض تحذيرها من صعود اليمين المتطرف في عهده عن الرواج الكبير المفاجئ لرواية 1984 للمؤلف البريطاني جورج أورويل لعلها كانت بذلك تدق ناقوس الخطر من احتمال تحوّل حكم ترمب إلى دكتاتوري فاشي فأدليت بدلوي في (الرأي) 11 نيسان الماضي رغم تحفظي المضمر على كثير من آراء جورج اورويل نفسه، اما اليوم فأجدني أمام إيماءة مشابهة بمقال منشور في الواشنطن بوست جاء فيه ان صعود الشعبوية اليمينية في اوروبا ثم في الولايات المتحدة متمثلاً في انتخاب دونالد ترمب قد ادى الى تنامي المخاوف من ظهور اشكال جديدة من الحكم السلطوي المطلق مما حدا بكثير من المعلقين في بحثهم عن الاسباب الكامنة وراء ذلك ان يعودوا الى كتاب ظهر قبل 65 عاماً تحت عنوان (اصول الحكم الشمولي) (The Origins of Totalitarianism) من تأليف حنة أرينت Hannah Arendt وهي المانية يهودية فرت من وطنها أثناء صعود هتلر الى السلطة عام 1933 وعاشت في باريس حتى عام 1941 كلاجئة بلا جنسية وناشطة صهيونية قبل ان تهرب الى اميركا وتستقر فيها وتؤلف كتابها عن الحكم الشمولي والدكتاتورية والابادة الجماعية متمثلةً في معسكرات الاعتقال والموت ابان الهتلرية في المانيا النازية لكنها ساوت بينها وبين الستالينية في روسيا السوفيتية! وقد تحدثتْ في الكتاب ايضاً عن فساد النظام البرلماني والاحزاب السياسية حتى اصبحت بعض الحكومات التي تأتي عن طريق الانتخابات لا تمثل المواطنين تمثيلاً حقيقياً، وافاضت في شرح ما تتسبب به الحروب من تهجير المدنيين وتشريدهم ليصبحوا بلا مأوى أو لاجئين بلا وطن لكنها تغاضت بالطبع عن الحركة الصهيونية التي تنتمي لها وما ارتكبته في حق الشعب الفلسطيني من جرائم بلغت ذروتها في النكبة عام 1948 حيث تم طرد 700 ألف فلسطيني خارج ديارهم، كما أغفلتْ تماماً ذكر الفلسفة الصهيونية في التطهير العرقي للسكان الاصليين فقد جاء على لسان احد قادتها الاوائل زئيف جابوتينسكي عام 1923 قوله: من المعلوم ان الناس في اي مكان في العالم يقاومون المستعمر مادام عندهم أمل في التخلص من سيطرته، لذلك علينا ألا نتوقف قط عن الاستيطان وان نواصل الاستيلاء على الاراضي بصرف النظر عن اي اعتبار لحياة السكان الاصليين ومصيرهم..!
وبعد.. فنحن نعرف حقيقة الاعلام الاميركي والمصالح التي يمثلها وينطق باسمها ويدافع عنها سراً وجهراً حتى في تعامله او تعاونه مع الآيباك، ونستطيع ان نستشف خبثه او تذاكيه في تجنب توجيه الانتقاد الصريح للرئيس ترمب وهو يتخبط في قراراته المخالفة لحقوق المرأة والملونين والمهاجرين أو المؤيدة لبناء الجدار العازل مع المكسيك على سبيل المثال لا الحصر واللجوء بدلاً من ذلك لاستخدام مقولات قديمة من كتبٍ مثل 1984 لجورج اورويل (1903 - 1950) و ( الاصول) لحنه أرينت (1906 - 1975) يستلّها لتشي بذلك مواربةً وعلى استحياء وهي في الواقع لا ترقى لما وصلت له عبقرية النضال البشري وابداعاته في العصر الحديث!